النص الكامل لرسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة الذكرى الـــ53 لاسترجاع الاستقلال والعيد الوطني للشباب

 

 

وجه رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة رسالة الى الامة بمناسبة إحياء الذكرى الـــ53 لاسترجاع الاستقلال والعيد الوطني للشباب، فيما يلي نصها الكامل :   

 

 

بناتي و بني وطني الأعزاء،

أستهل رسالتي هذه بأطيب تمنياتي لكم بمناسبة شهر رمضان الـمبارك راجيا من الـمولى جل و علا أن يتقبل صيامكم و قيامكم، و يغفر ذنوب عباده الـمؤمنيـن أجمعيـن.

إن بلادنا مقبلة على إحياء الذكرى الثالثة و الخمسيـن لاستعادة استقلالها. والحدث هذا على ما له من الأهمية، في حد ذاته، يزداد أهمية في عامنا هذا بما أنه يتزامن مع إحياء الذكرى الستيـن لاندلاع ثورة أول نوفمبر الـمجيدة.

بهذه الـمناسبة، دعوني أشاطـــركم وقفة خشوع و تأمل حيال تلك التضحيات التي يعجز الكلام عن وصفها و نعتها، تضحيات شعبنا من أجل استعادة حريته وسيادته، و كذا حيال التحديات التي ما زال لزاما على الجزائر أن تغالبها لكي تتجسد رسالة نوفمبر تامة غير منقوصة.

بناتي و بني وطني الأعزاء،

من بيـن ما يتخلل تاريخنا الـمعاصر من محطات تستوجب إحياء ذكراها يـنفرد يوم الخامس من يوليو بصبغة خاصة من حيث أنه نهاية مطاف كفاح مرير لشعبنا ضد استحواذ وسيطرة الـمستعمر على أرضه.

إن الـمقاومة و ما أعقبها من انتفاضات متوالية كلفت بلادنا ملاييـن الشهداء الذيـن قضوا في سبيل الشرف و الحرية، في مواجهة استعمار أبى، طوال قرن ونيف، إلا أن يستوطن أراضيـنا، و يـنفي الـمقاوميـن منا و يسعى من أجل اضمحلال ثقافتـنا و اندثارها. قصارى القول إن الإستعمار صير أبناء شعبنا «معذبيـن في الأرض» على حد تعبير أخيـنا الـماجد و رفيقنا في الثورة الفقيد الدكتور فرانس فانون.

ذلكم الرفض الـمستمر للسيطرة الأجنبية هو ما استطاعت ثورة نوفمبر الـمجيدة بلورته من خلال وثبة وطنية جندت شعبنا في سائر أرجاء البلاد، و في صفوف جاليتـنا الـمغتربة.

لقد كان استئناف كفاح الأمير عبد القادر، ثم الشيخ أحداد، فالشيخ بوعمامة الكثير من الـمقاوميـن غيرهم، على يد جيش التحرير الوطني، و كانت الضريبة مليونا ونصف مليون من الشهداء.

في هذا اليوم الذي نستذكر فيه عودة الجزائر إلى حظيرة الأمم الـمستقلة، نترحم بخشوع على أرواح شهداء ثورة نوفمبر الأبرار. كما نزجي تحية الإكبار للـمجاهديـن الأشاوس الذيـن قضوا نحبهم خلال سنوات الاستقلال و إلى رفاق السلاح الذيـن أمد الله في أعمارهم، أولئك الذيـن أتمنى لهم موفور الصحة و السعادة.

 

بناتي و بني وطني الأعزاء،

لقد أتاح الاستقلال خوض إعادة بناء الجزائر، التي أضحت ورشة تـنادي شعبنا على الدوام و بخاصة منه الشباب الذي يتزامن عيده الوطني مع عيد الاستقلال.

أجل، لقد كانت بلادنا غداة الاستقلال منهكة القوى تواجهها تحديات لا حد لها تمثل البعض منها، على سبيل التذكير، في مئات الآلاف من أسر الشهداء بلا معيل،و مئات الآلاف من الـمواطنيـن بلا مأوى و لا مصدر عيش، و ملاييـن الأطفال الـمحتاجيـن إلى التعليم. و أمام ذلك كله كانت الجزائر تفتقر إلى كل شيء، ويكفيـنا التذكير بأنه لـم يكن لديها إلا بضع مئات من الـمعلـميـن و بضع عشرات من الأطباء.

إن الغاية من التذكير بهذه الحقائق هي إبراز الجهد الذي بذله شعبنا الأبي قصد إعادة إعمار وطنه.

لقد كان مآل عملية إعادة الإعمار الوطني التي تم خوضها طيلة عقود عديدة من الزمن تحقيق نجاحات كبيرة و لكنها مقرونة بنقائص كتلك التي تسببت في ضائقة مالية أفضت إلى تراجع اقتصادي واجتماعي جراء إعادة الهيكلة التي فرضها على الجزائر دائنوها. زد إلى ذلك أن بلادنا اعتورتها إنحرافات أدت، عندما بلغت أوجها، إلى حلول الـمأساة الوطنية.

في خضم تلك الـمأساة الحقيقية، ظل الشعب الجزائري واقفا يقارع أخطبوط الإرهاب الغريب عن ثقافتـنا و قيمنا، و اليوم يجدر بنا أن نترحم بخشوع على أرواح شهداء الواجب الوطني.

في سياق تلك الـمعركة مضى شعبنا الأبي قدما بفضل إعتـناقه، عن بكرة أبيه، الوئام الـمدني ثم الـمصالحة الوطنية اللتيـن جنبتا بلادنا مغبة التمزق.

بناتي و بني وطني الأعزاء،

 

لـما استتب السلـم الـمدني و تعززت وحدتـنا الوطنية، عكفنا جميعا على تحريك الإعمار الوطني.

في هذا السياق، تحررت الجزائر من عبء الـمديونية الخارجية و أطلقت ثلاثة برامج تـنموية خماسية ضخمة و كذا العديد من البرامج التكميلية لفائدة ولايات الجنوب و الهضاب العليا.

و لقد أثمرت تلك الجهود بالعديد من الانجازات نذكر منها تسليم، على مدى ست عشرة سنة، ملاييـن من السكنات، و بناء آلاف الـمدارس و الاكماليات و الثانويات، و توسيع الشبكة الجامعية بحيث شملت جميع الولايات، وفتح الـمئات من الـمستشفيات الجديدة، و العيادات الـمتعددة الخدمات، و الـمراكز الصحية، و وصل الـمناطق، حتى وإن كانت نائية معزولة، بشبكات الـماء الشروب و الكهرباء و الغاز الطبيعي. و إلى جانب ذلك جعلت الاستثمارات العمومية و الانعاش الاقتصادي نسبة البطالة تـتـقـهـقـر من 30 % خلال 1999 إلى قرابة 10 % خلال العام الفارط.

هذا و شمل التجدد الوطني من بيـن ما شمله دعم الحريات و ترسيخ الديمقراطية.

أجل، سجلت الحريات الفردية و الجماعية تقدما لا سبيل إلى نكرانه و ذلك بفضل الاصلاحات التي تمت مباشرتها في مجال العدالة، و الجزائر تفتخر بكونهالا يوجد فيها و لا سجيـن سياسي أو سجيـن رأي، و لا أي صحفي محبوس لارتكابه جنحة صحفية.

يشتمل كل من الـمجال السياسي و الجمعوي على عشرات الناشطيـن كل يعبر عن آرائه و يتصرف من دون أدنى قيد بيـنما يشهد الفضاء الإعلامي تـنوعا غير مسبوق.

و ما انفكت حقوق الـمرأة تتعـــزز هي و دورها في الـمجالات التربوية والـمهنية و السياسية.

و توسعت رقعة التجدد بحيث شملت منظومة دفاعنا الوطني التي مَا انفكت تواصل تحولها الاحترافي و تعزز قدراتها و وسائلها بما يتساوق و مقتضيات حفظ السلامة الترابية و حماية آلاف الكيلومترات من الحدود البرية، في محيط إقليمي غير مستقـر من جراء وجود بؤر للتوتر، وآفتي الإرهاب الدولي و الاتجار بالـمخدرات.

و في هذا الـمقام، يجدر أن أعرب عَنْ تقديري لضباط الجيش الشعبي الوطني، سليل جيش التحرير الوطني، و صف ضباطه و جنوده، و لجميع إطارات مصالح الأمن و مستخدميها.

فباسم الأمة، أترحم بكل خشوع على أرواح شهداء الواجب الوطني من صفوف قواتنا الـمسلحة و مصالح الأمن، الذين جادوا بأرواحهم في سبيل دحر الإرهاب الهمجي الـمقيت و حماية الـمواطنين و ممتلكاتهم. و أزجي التحية، في هذا الـمقام، إلى رفاقهم الذين ما زالوا يواصلون الـمعركة بكل إقدام و شجاعة.

هذا، و لا يفوتني أن أعرب عن عرفاننا لوحدات الجيش الوطني الشعبي، التي تسهر بيقظة و تفان على حدودنا البرية، و على سلامة الجزائر على الخصوص من أذى الإرهاب الدولي الذي ما فتئ خطره يستفحل في شبه منطقتنا.

بناتي و بني وطني الأعزاء،

إن كل شعب من الشعوب حقيق بأن يتمعن في مساره لكي يقيس ما حققه من تقدم. أما نحن فيما يخصنا، فلا بد للتمعن هذا أن يكون مصدر اعتبار و إلهام وحفز لكي نواصل الـمسيرة صوب الرقي و الرخاء و تدارك التأخر.

إن استحضار ما بذله شعبنا من تضحيات و ما قطعه من أشواط نحو التقدم أمر لا غنى عنه حتى ندرأ التشاؤم الذي قد يـنجم عن مصير فردي ما زال ضنكاأو عن العدمية السياسية.

أجل، لابد من القول إن الجزائر ليست دون غيرها من البلدان مرتعا للفساد. حقا إن هذه الآفة قد تسربت، و يا للأسف، إلى بلادنا غير أنها تواجه بحرب لا هوادة فيها سلاحها سيف القانون. و ما على الذيـن يشككون في ذلك إلا أن يطالعوا التقرير الصادر عن الهيئة الـمختصة في الأمم الـمتحدة الـمكلفة بمتابعة تـنفيذ الاتفاقية الدولية للوقاية من الفساد و محاربته.

و يجدر بنا أن نقول إن الجزائر ليست، و لن تكون، فضاء للظلـم أو الإقصاء الاجتماعي، علـما بأنها تعبئ كل ما تملك من وسائل لـمحاربتهما. فالسياسة التـنموية العمومية تشمل سائر أرجاء البلاد، و التحويلات الاجتماعية الـمقتطعة من ميزانية الدولة لا نظير لها عبر العالـم أجمع.

هذه بعض الحقائق من بيـن حقائق أخرى كان لا بد من إبرازها لتقوية اعتزاز شعبنا الـمشروع، و لتخفيف وطأة الانتظار لدى مواطنيـنا الذيـن ما زالت بعض احتياجاتهم الأساسية تـنتظر التلبية.

أجل، ستسير التـنمية الوطنية، العام بعد الآخر، إلى الأمام، و ستستجيب البرامج التـنموية العمومية لاحتياجات مواطنيـنا من السكن أو الصحة أو التكويـن.

هذا و ستلبي تعبئة القدرات الاقتصادية، العمومية منها و الخاصة، متضافرة مع إسهام الشراكة الاجنبية، ما هو قائم من طلبات التشغيل في كافة القطاعات عبر سائر التراب الوطني، و لا سيما تلك الصادرة من الشباب.

و سيتواصل تعزيز دولة الحق و القانون بالتواتر مع الاصلاحات التي سيتم دعمها في جميع الـمجالات من خلال مراجعة الدستور التي بلغ مشروعها مرحلة إعداده النهائية أو كاد.

بناتي و بني وطني الأعزاء،

تواجه الجزائر حاليا انهيارا في أسعار الـمحروقات، و هذا الأمر يؤثر سلبا على الـمداخيل الخارجية للدولة ويستدعي انتهاج الـمزيد من الترشيد في تسيير الـموارد الـمالية العمومية حتى نتمكن من اجتياز هذا الاضطراب الاقتصادي العالـمي بسلام.

لكن الجزائر، فضلا عما اجتمع لديها من احتياطات الصرف، تتوفر على قدرات اقتصادية هامة تقتضي منا أن نثمرها أكثر فأكثر، كما تتوفر على شباب متكون قادر على مغالبة تحديات العصر في مجالي التكنولوجيا والتـنافسية.

سنحرر هذه الْـمُكَسِّبَات من إكراهات البيروقراطية ونجعلها، أيضا، في مأمن من آفات الغش الطفيلية التي تكلف الخزيـنة العمومية الكثير، و تعد ألد عدو للاستثمار الاقتصادي النزيه.

و لا مناص لنا من تثميـن قدراتـنا التـنموية بعيدا عن عراقيل التوجهات الـمتزمتة. و العالـم حافل بأمثلة البلدان التي تقاسمنا معها بعض الـمرجعيات الايديولوجية وهي اليوم تفرض نفسها كقوى تـنتهج اقتصاد السوق بفضل تعبئة قدراتها الوطنية، العمومية و الخاصة، و الإعتماد على الشراكة الأجنبية.

و في الوقت نفسه، تتطلب مواصلة التـنمية ومضاعفة تثميـن قدراتـنا مناخا وطنيا مستقرا و عقولا و قلوبا رصيـنة.

قبل بضع سنوات، دفعت الجزائر و شعبها وديمقراطيتها ثمنا باهضا من جراء الخطابات الشعبوية، والديماغوجية و التطاول على القانون. فلنستخلص العبر من تلك التجارب الوخيمة حتى نغذي تعدديتـنا السياسية، و الجمعوية، و النقابية، والتـناظر النبيل حول برامج بديلة.

بالفعل، يحتاج الشعب الجزائري إلى الإطلاع على الاقتراحات البديلة التي تروم تحسيـن مصيره وسيعرف كيف يختار، بكل سيادة، أثناء الـمواعيد الانتخابية الـمتعارف عليها في نظام الجمهورية.

هذه هي الرسالة التي أوجهها، في هذا اليوم الذي تتوحد فيه قلوبنا، إلى الطبقة السياسية في البلاد، و في الـمقام الأول إلى فعاليات الـمعارضة التي أحلها من نفسي محل التقدير.

ذلك أن الـمعارضة تؤدي دورها، في كنف مراعاة أخلاقيات الديمقراطية، على غرار الأغلبية التي ساندت برنامجي أثناء الحملة الانتخابية و التي يتعيـن عليها اليوم ترقيته في إطار نقاش ديمقراطي من أجل زرع الأمل ومؤازرة ما يجب بذله من جهد.

بناتي و بني وطني الأعزاء،

لقد طالبني عدد جم منكم بمواصلة الـمهمة التي شرفتموني بها ثلاث مرات، و قد استجبت للنداء و قبلت التضحية رغم ظروفي الصحية الحالية التي أحمد الله عليها تأسيا مني بالتضحية العظمى التي قدمها الأخيار من رفاقي في صفوف جيش التحرير الوطني الذيـن كتبت لهم الشهادة في ميدان الشرف.

فيما يخصني، فإنني سأمضي عاكفا على أداء هذا الواجب، بعون الله تعالى، وفقا للعهدة التي أناطها بي أغلبية شعبنا.

 و في هذا الـمقام نفسه، و بالذات في هذا اليوم الأغر الذي نستحضر فيه بطولات أسلافنا، و نحيي ذكرى مقاومات شعبنا و انتصاراته، أدعوكم بني وطني الأعزاء جميعا، مهما اختلفت مشاربكم السياسية، ومن حيث إن مصيركم الوطني مصير واحد، إلى ضم قوانا وطاقاتـنا من أجل مواصلة بناء وطننا الجزائر ، عاما بعد عام و جيلا بعد جيل، و الإرتقاء بها إلى مستوى طموحاتكم و تطلعاتكم، و إلى مستوى الغاية الـمنشودة التي استشهد من أجلها شهداؤنا الأمجاد.

 

الجزائر, سياسة