عام الطاعون.. ما يخبرنا به الأدب عن الأوبئة

لزمن طويل قبل انتشار فيروس كورونا، كان موضوع الوباء تقليدا أدبيا مبثوثا في التاريخ الأدبي، وتناول عدد من الروائيين والشعراء قصصا إنسانية تتراوح بين الألفة والفراق ومشاعر من فقد حبيبه بالوباء، وكذلك المحاصرين في الحجر الصحي أو الخائفين من العدوى أو الفارين من الموت.

وفي زمن جائحة كورونا، تعلمنا أن التشخيص العلمي للوباء أصعب مما كنا نعتقد، وطغت علينا حالة عدم اليقين فبتنا نشكك في كل شيء، من أعراض الإصابة بالفيروس مرورا بكيفية تشخيصه ووصولا إلى مدى موثوقية التشخيص.

وبعيدا عن السياسة والطب، بيّن أستاذ الأدب آرنولد وينستاين -في تقريره الذي نشرته مجلة "فورين أفيرز" (Foreign Affairs) الأميركية- كيف يمكن للأدب أن يقدّم صورة طولية عن الأوبئة وكيفية استجابة المجتمعات لها.

روايات الطاعون

وذكر الكاتب أن أغلب الكتب ذات المرجعية الأدبية الغربية تطرقت إلى هذا النوع من القضايا، مثل كتاب "الديكاميرون" للشاعر الإيطالي جيوفاني بوكاشيو، ورواياته التي تحدثت عن زمن الطاعون الأسود في القرن 14، أو مسرحية "أوديب ملكا" للمسرحي اليوناني القديم سوفوكليس التي تتمحور بالأساس حول عدم اليقين، فلا يعلم أوديب أن الرجل العجوز الذي قتله هو والده أو أن المرأة التي تتقاسم معه سريره هي والدته.

وبينما تغرق مدينته طيبة في القحط وهلاك الماشية وموت الأطفال، ينظر إليه شعبه على أنه أملهم الوحيد. ولكن في نهاية المسرحية، يدرك أوديب أنه هو اللعنة في حدّ ذاتها، وذنوبه ومعاصيه هي السبب وراء انتشار الطاعون.

ويعتبر الكاتب أن سوفوكليس -المتوفى عام 405 قبل الميلاد- محلل سياسي داهية، لكن لا يمكن اعتبار زنا المحارم وقتل الأب أو الأم اليوم تفسيرا علميا منطقيا للجائحة، وإنما تطرح المسرحية سؤالا بسيطا ومخادعا: من المسؤول عن ذلك؟

وأشار الكاتب إلى أن التحليل الأدبي يوضح لنا أن الموت الجماعي يؤدي إلى استجابات سياسية معتادة، على غرار استخدام أشخاص أو فئات معينة لتكون كبش فداء. وهذا ما يفسر التسميات التي أطلقت على أمراض مثل مرض الزهري الذي اجتاح أوروبا في أواخر القرن 15، حيث تقول الناقدة والمخرجة الأميركية سوزان سونتاج إنه كانت تطلق عليه أسماء مثل "الجدري الفرنسي" في إنجلترا، و"داء جرمانيكوس" في باريس، ومرض نابولي في فلورنسا، والمرض الصيني في اليابان".

وينطبق الأمر ذاته على جائحة كورونا التي يطلق عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحلفاؤه "فيروس الصين".

الحب والموت

وأثناء الجائحة، يمكن أن يتسبب التواصل الذي يعتبر فعلا إنسانيا أساسيا، في فنائنا. وبما أن انتشار فيروس كورونا المستجد يعتمد على التقارب بين الناس، فإن الهدف من التدابير الوقائية -مثل التباعد الاجتماعي وإجراءات الإغلاق- هو الحد من وتيرة العدوى. ولا شك أن الكُتّاب سلطوا الضوء على مثل هذه المسائل في أعمالهم.

ففي كتابه "مذكرات عام الطاعون" الصادر في 1722، يصف الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو السلوك المهووس لسكان لندن في محاولة يائسة للنجاة من وباء مدمر ظهر عام 1665، باعتماد طرق لا تختلف عما نفعله حاليا: حيث كانوا يرتدون القفازات وينظفون كل شيء بالخل ولا يلمسون أحدا.

كما سلط ديفو الضوء على أهوال الحجر الصحي، واصفا وضع الأمهات الحريصات على حماية أطفالهن من خلال البحث بشكل مستمر عن العلامات المميزة للمرض على أجسادهن، ولكنهن في نهاية المطاف يتسببن في إصابتهم بالمرض بسبب القرب الجسدي، ليكون الحب سببا في وفاة عائلات بأكملها.

المنزل الكئيب

وتطرق الكاتب إلى رواية "المنزل الكئيب" لتشارلز ديكنز الصادرة عام 1853 حول مرض الجدري.

في الرواية، يموت الفتى المتشرد جو جرّاء هذا المرض، وتصاب إستير به نفسه ويتشوه وجهها بعد رعايتها للصبي المشرد جو.

ويلاحظ القارئ أن التباعد في حد ذاته ليس سوى وهم، إذا إن الأحياء الفقيرة -سواء في الرواية أو في لندن- تستمر في جلب الموت والأمراض.

من جهته، كان ديكنز يعلم أن القذارة والعفن منتشران في كل مكان ولا يمكن احتواؤهما، وتكشف حبكته القصصية دائما الروابط والصلات ذات الأبعاد السياسية: فالأرستقراطيون المتعجرفون الذين يعتقدون أنهم آمنون خلف جدران قصورهن، يعلمون في قرارة أنفسهم أنه حتى بالنسبة لأصحاب المكانة الرفيعة، تظل المناعة مجرد وهم. وحتى لو تم إنقاذ الجسد، فلا يمكن حماية العقل والقلب من الأمراض التي يمكن أن تفتك بهما.

وفي أوقات عصيبة مثل التي نمر بها اليوم، حيث يعتبر التواصل المباشر مع الآخرين خطيرا، فإن من المفيد أن نلجأ إلى الأدب كطريقة للتواصل بحسب الكاتب، إذ يعلمنا الأدب أننا لا نتمتع بالحصانة ضد الآخرين، أو بالأحرى لا نريدها.

وعلى حد تعبير فوكنر، يسلط الأدب ضوءا خاصا على "الرواق المظلم لمسكننا الأرضي"، وبهذه الطريقة، يعطينا قراءة لشؤوننا الحياتية التي من غير المحتمل أن يضاهيها أي اختبار علمي.

المصدر: فورين أفيرز

 
ثقافة وفنون